دائما تشرق الشمس باهتة ويبدو الصباح رمادياً، عنده أُزيح الغطاء من فوق جسدي النحيل، ألمح شعاعاً يتسرب من ثقب الباب، أترك فِراشي وأنظر إلى سرير أخي ماجد، غطاؤه مطوِّي وملاءته البيضاء لم تتغير منذ فترة طويلة، أفتح الباب، أمي فوق مصلاها ترفع يداها إلى السماء، تقول كلاما بصوتها العالي، تنزل الدموع على خديها، تمسحها بطرْحتِها، أقف جامداً في مكاني وأختي الصغيرة علياء تقاوم وخم الصباح، إقترب منها، أداعبها، تبتسم لي.
تأتي رفيقتي سلمى نخرج سوياً إلى المدرسة، ننظر بعيداً كلما رأينا جندياً يحمل السلاح، نقف في طابور الصباح، نغني الأناشيد، نحدِّق في العلم المرفوع فوقنا ونؤدي له التحية بحب وإجلال.
لا تنسى أمي أن تضع في حقيبتي حجراً، وألمح كل حقائب رفاقي تحوى أحجاراً بجوار الكتب إلا حقيبة سلمى بها لوحة مرسوم عليها غصن به أوراق خضراء.
ـ من رسم اللوحة يا سلمى؟
تصمت وألمح آلاف الهزائم في عينيها.
بيتنا ملاصق لبيت سلمى، أقودها بعد العصر، نذهب كي نلعب لعبة الناطورة أعلِّمها كيف تقذف الناطورة، يبدو أنها لا تحب التعلم، كل الرفاق مثلى يجيدون قذف الناطورة، علمني أخي ماجد فنون القذف جيداً، حتى أمي علمتني كيف أمسك الحجر جيداً في يدي الغضَّة.
ـ أين أخي ماجد يا أمي؟
تنظر إلى القمر الباهت فوقنا وتتحدث معه بصمت مُريب.
ـ هل هو عند القمر يا أمي؟
تجذبني وتضمني إلى صدرها... وتجهش بالبكاء.
دائما يعود أبي ليلاً من عمله ويخرج قبل شروق الشمس، أحياناً لا أراه وكلما أسأله عن أخي ماجد يخبرني أنه سيعود قريبا من سفره، أحدِّق في سريره الفارغ، أتذكر أغنيته الشهيرة التي حفَّظني إيَّاها منذ أن نطق لساني أول الحروف.....
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن....
تدخل سلمى حجرتي فجأة، تردِّد معي مفردات الأغنية:
يا قدس يا مدينة الصلاة... أصلي.
تمسك يدي، نخرج إلى بطن الحارة، يشاركنا الرفاق....
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد ....
نطوف الشوارع، نلمح الفرحة المكسورة في عيون الأمهات.
صورة أخي ماجد تلِّح دائما عليَّّ في منامي بملامحه الحزينة التي أشتاق إليها كثيراً، لم أره ذات يوم ضاحكاً، كل وقته يقضيه مع رفاقه، يتحدثون.... يختلفون... ثم يتفقون، وتصنع أمي القهوة لهم.
كانت للصيف رائحة جميلة والعصافير تملأ غصون الأشجار الواقفة، توقظنا عند الفجر وتبعث فينا الأمل الأخضر بصوتها، لكن حتى العصافير سافرت معك يا ماجد.... ولا أدرى هل ستعود معك، ولكن ربَّما...
أشياء كثيرة تذكِّرني بأخي ماجد حتى القمر عندما يكون بدراً أحدِّق فيه كثيراً وأخاف السماء بلونها الأسود عندما يهجرها القمر ويترك النجوم تائهة.
ـ أبي أحب الذهاب إلي أخي ماجد.
ـ عندما تكبر سيكون مصيرك مثل....
ولم يُكمل أبي حديثة وراح يأخذني في حضنه حتى شعرت أنني تلاشيْت.
بعد الظهيرة ونحن عائدون من المدرسة فتحوا علينا النار، تواريْنا خلف ساتر ورُحنا نفتح حقائبنا وأمطرناهم بوابل من الحجارة، فرُّوا هاربين، تعجَّبت سلمى وفى اليوم التالي أخرجت اللوحة ووضعت مكانها حجراً ورُحنا نُغني....
لأجلكِ يا مدينة الصلاة أصلي....
الكاتب: أحمد الليثي الشروني.
المصدر: موقع مجلة الفاتح.